كثير من الناس من يعاني من الإحراج عندما يطلب منه الآخرون – غير والديـه – عملاً أو خدمةً فلطيبِ قلبه يوافق ، هو إنسانٌ خدوم ، ويحب مساعدة الآخرين ويشعر بنشوة الفرح حين يرى البسمة على وجوههم لإنجازٍ عَمِله لهم ، وهذا جميل ، لكن أتدرون أين المشكلة ؟ المشكلة هي أن أمثال هذا من الطيبين قد يقع ضحية الضغوطات فهو ما بين سِنْدانٍ ومطرقة ، فهو ما بين الإحراج بقبول الطلب وما يترتب عليه من ضغطٍ نفسي وجسدي بل وربما مالي.
وما بين كثرة الطلبات والعجز عن إنجازها بالمستوى المطلوب ، ناهيكَ عن أن يتأخر أو لا يفِ بالوعد وهنا الطامة ، فيصبح في نظرهم غير صادقٍ ومخلفٍ لوعوده ولا يعتمد عليه وهلم جرى من تلكم الصفات ! طيبة القلب لوحدها يا عزيزي ليست كافية ، إن لم تتعلم مهارة أن تقول ” لا ” فسيسرق بعض من لا يستحق بهجتك.
ولو جلست مع نفسك تستذكر بعض المواقف التي قلت لنفسك فيها بعد أن قلت نعم بمدة قصيرة : لماذا وافقت ؟ ليتني لم أوافق ! ، لربما وجدتها كثيرة ، وأذكر مرةً أني كنت أعاني من هذا الأمر حتى أصبحتُ كقول ذلك الأعرابي حيث يقول : ليس لي من فلان إلا ضرب الصدر والجبهة!
إن جئته لحاجة ضرب صدره وقال: “قُضيت”..
وإن جئته بعد فترة ضرب جبهته وقال: “نسيت”!
فكنت أعيش صراعاً ما بين حب المساعدة وخوف الإخفاق ثم أكون كمن أراد أن يكحلها فأعماها ، وأقبل من هذا وهذا فتتراكم على رجل الفزعات المهمات حتى تُسقطه ، فالمهمة الصغيرة مع المهمة الصغيرة مع المهمات الأخرى حين تجتمع عليك ستضغطكَ ضغطةً يضيق منها صدرك ووقتك ويُنزَفُ جهدك ، خاصةً إن كنت ممن يوافق بلا تفكيرٍ بالعواقب وبلا تقسيمٍ للمهام وبلا تخطيط .
وبينما كنتُ أتجول ذاتَ يومٍ في مكتبة العبيكان وإذا بي ألمح كتاباً مترجماً عن كيف تقول كلمة لا ! فقلتُ أتى الفرج فأخرجت صُرة الدراهم وابتعته من السوق ، ولما بدأت أقرأ وأقرأ وأقرأ ثم أقرأ وأستمر بالقراءة ، وجدت أني الآن أستطيع أن أقول لا بالنكهة الغربية ، بحكم أن الكتاب أجنبي طبعاً.
سأقول لا ولكن بعد أن أتخلى عن بعض المبادئ ومحاسن الأخلاق وعن الإحسان وعن تلكم الأحاديث التي تحث على السعي في حوائج الناس ، فالمجتمع الغربي هو مجتمع دنيوي بحت ، قل لا لأجل حياتك ولو كان لأقرب الناس لك ! فرأيت أن هذا لا ينفع ، ومع التجربة وجدت أن من الصعوبة بمكان أن تقول لكل شيءٍ لا تحبه لا ، بل أحياناً توافق على مضض وأحياناً يزل لسانك بقولك ” أبشر ” وأحياناً تأخذك الرحمة فتوافق.
لكن إن لم نستطع أن نقول لا فعلى الأقل نستطيع أن نقول في بعض الأمور لا ، والتخفيف من البعض خيرٌ من عدم التخفف ، وإليك هذه الطرق التي ربما تساعدك بإذن الله على أن تقول لا دون أن تخسر أحداً أو تكسر قلباً .
- من القواعد الجميلة في معرفة ما لك وما عليك وهل تستطيع أن تقبل العمل أم لا وكيف تقيمه قبل قبوله ، قاعدة دوائر الأولويات وقد تحدثت عنها في مقطعٍ منشور إليك رابطه
- إياك أن تتلفظ بهذين الحرفين ” لا ” إلا إن كنتَ تريد الخلاص ممن أمامك وأن يأخذ بخاطره لترتاح منه فهنا أشد على يدك وأقول كررها كما كررها صاحب قصيدة صوت صفير البلبلِ حين قال :
فقال لا لا لا لا لا .:. وقد غدا مهرولي
والخُوذ مالت طربا .:. من فعل هذا الرجلِ
- حين يُطلب منك عمل لا تجيده فقل بهدوء أتمنى أن أخدمكم لكني لا أجيد مثل هذا العمل .
- حين يُطلب منك عمل تجيده لكنك منشغل فاعتذارك بانشغالك قد لا يكون كافياً عند البعض بل يكفهر قلبه ولو ابتسم في وجهك وما أكثر هؤلاء إلا ما رحم ربي ، فالخروج من مثل هذا بأحد أمرين : إما أن تقول له : أبشر سأفعله لك بإذن الله لكن ليس الآن لأني منشغل جداً وإنما الأسبوع القادم ، أو حدد فترةً تناسبك ، حينها أنت تكون قبلت بالعمل في وقتٍ يناسبك وهنا إما أن ينتظر وإما أن يذهب ليبحث عن غيرك ، والطريقة الثانية أن تقول له أتمنى أن أخدمك في هذا لكني جداً منشغل ولو ذهبت لفلان لأنجزها لك كذلك فهو يعرفها أيضاً ، وطالب الخدمة في هاتين الطريقتين إما أن يعذرك ويقدر انشغالك ويشكر لك تجاوبك ، وإما أن يكفهر ويبدي انزعاجه بل ربما لا يهاتفك بعدها ويأخذ في خاطره منك ، ومثل هذا أقصد من لا يعذرك ، نصيحتي ألا تتكلف عناء تتبع رضاه ، فمن لا يقدر انشغالك الصادق لا يستحق منك كل هذا الاهتمام .
- لا تُدخل نفسك في متاهة ” نعم ولكن ” فالبعض يتقدم تقدم المستحي ، فلا هو يستطيع الرفض ولا هو ينجز العمل ، ويقول لطالب الخدمة : نعم ولكن قد لا أعمله لك بالشكل المطلوب لانشغالي ، وغالباً ما يرد عليه طالب الخدمة : كل ما يأتِ منكَ مقبول ، خاصةً إن كان يعلم الناس عنك أنك إنسانٌ إذا عملت عملاً نسيتَ الناس حولك حتى تتقنه ، فهنا تبريرك بـ ” لكن ” لا يقدم ولا يؤخر .
- ما ذكرته سابقاً لك من طرق في كيف تقول لا ، ينبغي أن تقولها بأسلوبٍ جميل وليس مع نبرةِ غضبٍ أو انفعال ، فالغضب نارٌ تحرقُ جمالُ الأسلوب معها .
- كن صادقاً في اعتذارك بانشغالك ، إياك أن تعتذر بأنك مريض ثم يجدك في أحد المقاهي بصحبةٍ كوبٍ من الشاي ورفيقٍ تسامره .
- ذكر انشغالاتك بشكل صريح للبعض قد يجعله هو ينحرج من طلبك ويتراجع ، فلو قلت له : انظر لدي موعد من كذا إلى كذا ثم بعده كذا ثم كذا ومع ذلك سأعمل لك هذا الأمر ، إن كان ذا خلقٍ حَسَن فسيخجل هو ويبادر بمنعك ويقول : إذن لا تفعل يكفيك ما عندك .
- حين تقول لا فليس لأنانيةٍ فيك ، وإنما لمصلحةٍ لك أو لغيرك .
- خذ الأمور ببساطة حول كلمة ” لا ” ولا تعطِ الأمور أكبر من حجمها .
- التوسط مطلوب ، فلا ترفض كل شيء فتخسر الناس من حولك ، ولا تقل نعم لكل شيء فيزدريك الناس للأسف ، ولكن سددوا وقاربوا .
- بالمناسبة البعض حتى وإن اعتذرت له بانشغالك قد يسألك وبأي شيءٍ منشغل ؟ ما هي أشغالك ؟ ثم يُمطرك بالأسئلة المزعجة وكأنه محقق ! وهذا وأمثاله لو تجيز الشريعة قتله لأفتيتكم بذلك وأرحت منهم البلاد والعباد .
- من الأمور المهمة التي أريدك أن تنتبه لها أنك قد لا تكون مشغولاً وتجد لديك القدرة على هذا العمل ولكنه لا يصب في هدفك ـ طبعاً كلامي هنا لمن لديهم أهداف يسعون لها فإن لم تكن كذلك فاربط حزامك وتجاوز هذه النقطة وانتبه أمامك تحويلة – وأما إن كنت صاحب هدف فماذا تفعل مع الطلبات التي يمكنك فعلها وقد تجد الوقت عندك لكنها لا تصب في هدفك ، كأن يطلب منك زميلك مثلاً أن تذهب معه إلى القهوة لمجرد أنه متفرغ في هذا الوقت ويشتهي فنجاناً من القهوة ! وأنت قد تكون القهوة خرجت من أنفك لكثرة شربها أو لا تحب جلسات المقاهي رغم أنك متفرغ حالياً ، لذا ذهابك للقهوة قد لا يخدم أي هدف من أهدافك بينما لو قال لك أريد الذهاب للمكتبة وأنت من أهدافك شراء كتاب فهذا سيخدمك ، فلا تقل نعم دئماً لكل شيءٍ ولو كان في بداية الأمر تراه ممتعاً ، ولا تقل لا لمجرد أن تتخيل أنه متعب ، بل فكر جيداً فما يحقق أهدافك يستحق أن تقول من أجله ” نعم ” ولو كان مراً ، وما كان لا يحقق أهدافك فقل له ” لا ” ولو كان حلواً .
- قد تضطر أحياناً إلى قول ” نعم ” رغم أنك تحمل فوق رأسك من الأشغال ما الله به عليم ، لكن لأن الذي طلب منك الطلب شخص يهمك أو تربطك به مصلحة أو يحقق هدفك ..إلخ ، فهنا قل نعم ، وأعد ترتيب خططك ومهامك وفوض في بعض أعمالك ، فالتفويض مفتاح مهم وقاعدة ستغير الكثير في حياتك ، وسنتكلم عن التفويض مقالاتٍ أخرى بإذن الله ، وأذكر مرةً أن شخصاً عزيزاً طلب مني أن أصمم له عرضاً للبوربوينت ، وأنا أملك هذه المهارة بلا شك لكني لا أملك الوقت ولا أستطيع الاعتذار منه ، فقلت نعم ، ثم تواصلت مع مصممٍ ودفعت له مبلغاً لإنجاز الأمر وتم ، فشكر لي صنيعي دون أن يعلم بتفويضي ، قد يقول قائل لكنك دفعت مالاً ، فأقول نعم دفعته لشراء مزيدِ وقتٍ لي أقضيه في راحتي أو في أعمال أخرى ، والوقتُ غالٍ جداً ، فالتفويض منقذ في بعض الأحيان ، ولكن فوض من يتقن .
- هناك ” لا ” محمودة وجميلة ، وهي ” لا ” التقدير ، كأن يقول شخص أنت تستحق هذا التميز ، فتقول لا بل من يستحقه هو فلان فهو الجندي الخفي ، أو أن يقول لك تحدث فتقول لا أتحدث وفلان موجود فهو أقدر مني ، هنا المشاعر مختلفة بعد قولك ” لا ” فهي مشاعر جميلة .
- ماذا عن الأبناء ؟ إن قول “لا” لأبنائنا حينما يتطلب الأمر ذلك يجعلهم شخصيات أكثر قوة، وأكثر قدرة على التحمل والاعتماد على النفس ومواجهة الحياة ، لكنها قلها مع ذكر السبب بشكلٍ موجز دون أن تصنع قصة ، فحين يريد حلوى مضرة قل لا لأن هذه ستضرك ، ولكن إياك والكذب ، وأما تلبية كل مطالب الأبناء وقول “نعم” على كل شيء لن يجعل حياتهم أسهل على الإطلاق على المدى البعيد ، عموماً إن كنت مربياً فأنصحك بالاستزادة عن القراءة حول هذا الموضوع وهو قول كلمة لا للأطفال ، وأيضاً تعليمهم عليها ، وهناك بعض الكتب الجيدة في حمايتهم من التحرشات وكيف يقولون لا لمن أراد أن يلحق بهم الأذى فأنصح بالبحث عنها .
- وأخيراً قبل أن تقول نعم أو تقول لا قل لمن يطلب الأمر دعني أفكر وسأرد عليك ، ثم اذهب واستشر زوجتك ! أعلم أنك هنا استغربت ، ولماذا تستغرب كلامي أيها المتزوج ؟ نعم استشر زوجتك ، لكنني لا أضمن لك النتائج ولم أقل لك شيئاً 🙂