إن من الأمور التي ينبغي أن ندركها ، أنه مهما خططنا لشيء فستحصل هناك أمور غير مخطط لها سلباً أو إيجاباً ، أنت تريد وأنا أريد والله يفعل ما يريد ، وحديثي في هذا المقال سيفهمه نوعان من القراء ( مدربٌ ومتدربٌ حضر العديد من الدورات ) إذ سيدركون من خلال حديثي ما أقصد وسيعون تلك التقسيمات ، ولعل هذا المقال يكون حراكاً للأذهان وليس إلزاماً بالإذعان .
قد تكونون مثلي معاشر القراء المهتمين بالتدريب قرأتم كثيراً عن التدريب ، وبلا شك فمن يقرأ عن التدريب لابد وأن يكون قد مر بتعريف التدريب على طريقه ، وحين تأملت في تعريفات من تكلم عن مفهوم التدريب وجدت كثيراً منهم يذكر أن التدريب ” نشاط مخطط له يهدف إلى نقل المعلومات وإكساب المهارات وتغيير القناعات ” وإن شئت فاكتب في قوقل ” التدريب نشاط مخطط له ” لتنظر النتائج ، وأنا مع ذلك أتفق معهم بلا شك في تناول التدريب للمعلومات والمهارات والقناعات ، أو بعضها ، ولكني أختلف في كونه ( نشاطاً مخططاً له ) ! ، فالتدريب من وجهة نظري ومما ألمسه في الواقع ينقسم من حيث (التخطيط) إلى ثلاثة أقسام :
1- تدريبٌ مخططٌ له بالكامل ، وهذا قليل ، والتخطيط لا يعني الأفضلية دائماً .
2- تدريبٌ في غالبه مخططٌ له وبعضه بلا تخطيط ، وهذا هو الغالب وأنصح بهِ .
3- تدريبٌ غير مخططٍ له ، وهذا تصنعه الظروف ، ولا يناسب الجميع .
وسآخذك أيها القارئ ، أيتها القارئة في جولةٍ مجانيةٍ معي حول هذا التقسيم الماتع فاربطوا أحزمتكم واشحذوا عقولكم ، فأقول :
أولاً : التدريب المخطط له بالكامل :
وهذا الذي ينادي بهِ بعض مدربي المدربين وبعض المؤلفين عن التدريب ، فمهما حاول المدرب أن يجعل من التدريب نشاطاً مخططاً له بالكامل فلن يستطيع ، فالتدريب المخطط له يعني : أن تبدأ تدريبك من الألف وحتى الياء وفق خطةٍ واضحةٍ مرسومةٍ لا تحيد عنها ذات اليمين ولا ذات الشمال ، وهذا لا يتحقق إلا نادراً ، ولكنه يتحقق بالتأكيد حين تلقي دورتكَ لوحدكَ أو مع متدربين لا ينبسون ببنتِ شفةٍ (أي لا يتحدثون) ، ولربما من سلبياته أنه يجعل منك مدرباً روبوتاً ، وأمثال هؤلاء المدربين الروبوتيين لربما يقع في إشكالٍ حين تختلُّ الخطة بسبب انطفاء البروجكتر مثلاً أو التأخير في تسليم الحقائب التدريبية إن كان يعتمد عليها بشكلٍ كبير ، أو عدمِ فهم المتدربين للعبة التدريبية أو عند معارضته في الدورة على بعض النقاط ونقاشه فيـها ، أو لتعبٍ طرأ له وهنا لا يستطيع (المدرب الروبوت) الانتقال مثلاً في محورٍ من المحاور من أسلوبِ محاضرةٍ (كمدرب) إلى أسلوبٍ ورشةٍ (كميسِّر) ليستعيد قواه – وقد عرّفت المُيَسِّرَ بنهاية المقال – ، فكل هذه مؤثرةٌ على خطته وزمنِ دورته ، وهناك الكثير من مشتتات الدورة المخطط لها كاملةً ومن ذلك :
– كثرة المداخلات التي لم يضع المدرب حداً لهـا بطريقةٍ ذكية .
– نسيان بعض الأدوات المخطط استخدامها في الدورة التدريبية .
– انطفاء بعض الأجهزة كالبروجكتر أو حتى الكهربـاء .
– نسيانك لبعض المعلومات أو للقصة ..إلخ !
– سرقة اللابتوب قبل الدورة التدريبية ( وقد حصلت لأحد الأصدقاء ) ! – خل ينفعه التخطيط – .
– الملفات لا تفتح بسبب عطل ، أو الخطوط عند نقل الملف أصبحت غير متضحة .
إلى غير ذلك من مشاكل التدريب المتوقعة والغير متوقعة .
قد يقول قائل : وماذا إن وضعت جميع الاحتمالات بالحسبان وخططت لتفاديها في حال وقوعها ، أأكونُ صنعتُ دورةً مخططٌ لها بالكامل ؟!
أقول : بلا شك فالتحسبات والاحتياطات للمشاكل المتوقع حدوثهـا هو نوعٌ من التخطيط ، لكن هناك من التحديات ما قد تطرأ ولم تكن بالحسبان مهما اجتهدت ، ومن الصعوبة أيضاً أن تبني حقيبةٍ تدريبيةٍ لدورةٍ من دوراتك مشتملةً على جميع المخارج والتصريفات لتلكم المشكلات .
وهذا النوع في ظني ( التدريب المخطط له ) يحتاجـه المدرب المبتدئ في دوراته التدريبية ، وأنصحُ بهِ بلا شك للمتبدئ ، فهو يزيد من ثقته بنفسه وانطلاقته رغم المطبات الهوائية التدريبية التي سيمر بها في دورته ، ومع الأيام سيتعلم كابتِنُنَا الجديد التعامل مع تلكم المطبات لينتقل نحو تدريبٍ مخططٍ وغير مخططٍ له .
وأصدقُكُمُ القول : لَأَنْ أسير في ركب القائلين أن (التدريب نشاطٌ مخططٌ له) أسهل عليَّ من أن أعارضـه لعدم قناعتي به ولربما تقتنعون مثلي في نهاية المطاف ، لكني حالياً أعمل على كتابٍ عنوانه ” دوائر في التدريب ” لعله أن يصدر قريباً بإذن الله ، وقد جعلتُ دائرةً من دوائر التدريب للتعريف واستوقفتني تلك اللفظة ( مخطط له ) وليس الكتاب مكاناً مناسباً لأفرغَ جلجلةَ صدري حولها ، فنثرتُ الجلجلةَ هاهنـا كمشاغبةٍ تدريبيةٍ تثقيفيةٍ وأرجو ألا تزعجكم جلجلتي .
ثانياً : التدريب المخطط له في الغالب .
وهذا هو تدريب المبدعين ، فالمدرب المبدع في ظني هو من يخطط لدورته مع تركِ مساحةٍ للأفكار الإبداعية الحاضرة والقصص الطارئة والألعاب المناسبة المبتكرة والمداخلات الثرية ..إلخ ، فكم من مدربٍ غيَّر من أسلوبِ أنشطته المخطط لها بما يتناسب مع الفئة المستهدفة لمَّا عرفهم عن قرب ولربما غير النشاط بالكامل ، وكم من مدربٍ استحضر قصةً لم تكن في الحسبان فعرضَها وأثارت نقاشاً يغني عن حديثه عن النقطة التي كان قد خطط لها ، وكم من مداخلاتٍ ومناقشاتٍ لم يرتَّب لها أدَّت إلى ورشٍ ونتائجٍ لو خطط لها المدرب لما أتت هكذا ، وكم من مدربٍ اتجه إلى السبورة الورقية قائلاً : ( أنتم ذكرتوني بالنظرية الفلانية ) أو يقول ( بالمناسبة هناك نظرية تُدعى كذا ) ثم يقوم بشرحها وهكذا ، – نعم أعلم أن بعض المدربين يتعمد هذا بأن يجهز شيئاً للسبورة الورقية ويتحين الفرصة لإدخاله بهذه الطريقة من باب جذب الانتباه وهذا جيد وهو سرٌّ من أسرار بعض المدربين ، فلا تخبر أحداً بهذا السر– .
والعجيب أن بعض الأشياء لو خططنا لها لربما لم تأتِ كما أتتِ الأشياء الغير مخطط لها ، وهذا واقع ، فهل ترونَ معي أن التدريب هو ( نشاطٌ يهدفُ إلى نقل المعلومات وإكساب المهارات وتغيير القناعات) ، سواءً كان مخططاً أو غير مخطط ؟! ماذا عن قناعتكم الآن ؟!
ولعل أحدكم يخطر في باله سؤال فيقول :
وكيف يصل المدرب إلى مرحلة اللاتخطيط ؟!
سأجيب عن هذا حين نتحدث عن التدريب بلا تخطيط .
وهل يكونُ التدريب غير مخططٍ له ؟! ما هذا اللعب !!
أقولُ هوِّن عليكَ لا .. ! وخذ رشفةً من قهوتكَ ثم تابع القراءة تكرماً .
ثالثاً : التدريب الغير مخططٍ له !
كثيرٌ من الأشياءِ في حياتنا قد تسير بلا تخطيط ، بل حتى أهدافنا ، نكتبها ثم ننظر في نهاية العام فلربما نجدُ بعضاً مما كتبناه لم يتحقق وتحققت أمور أخرى لم نكتبها !
المعلم (المربي) الذي يدخل فجأةً لفصلٍ ليغطي حصة انتظار (اللهم وفق المعلمين والمعلمات) فيدخلها وليس معهُ أي خطةٍ لقضاء هذه الـ 45 دقيقة مع هؤلاء الطلاب ، ثم تجده بطريقةٍ معينة يُشغل الطلاب معه حتى يرن الجرس ! والداعية الذي يجلسُ في مجلسٍ ثم يبغته أحد الحاضرين بطلبِ كلمةٍ منه للجميع وهو لم يخطط لذلك ولم يستعد ، ثم تراه يلقي كلمةً لربما لو خطط لها لما أتت بهذا الجمال ! وأجزِمُ أن بعض المدربين الفضلاء وبعض المدربات الفاضلات قد تعرضوا لمثل هذا إما بسؤالٍ طُرح عليهم فأجابهم بدورةٍ تدريبية ولربما طلب من بعضهم التطبيق ، أو أن يُطلب منه فجأةً دورةً تدريبيةً يلقيها لمجموعةٍ حاضرةٍ دون أن يخططَ هو لدورته هذه ! ومع ذلك يدرب .
أنا أعلم علم اليقين أن المعلم المربي ، والداعية ، والمدرب لديهم قاسمٌ مشترك بعد توفيق الله عز وجل هو السبب في تجاوزهم للتحديات بلا تخطيطٍ مسبَق ، هذا القاسم هو ( الخبرة ) الخبرة التي تنشأ من مخزونٍ علمي وبيان ، ومن تجارب في الميدان ، ومن ممارسةٍ وإتقان .
ولعلكم تتفقون معي أنهم قدموا بلا تخطيط لهذا ولربما أبدعوا ، وهنا أعود إلى سؤالِ البعض السابق : وكيف يصل المدرب إلى مرحلة اللاتخطيط ؟! وهل هي إيجابيةٌ دائماً ؟!
إن الوصول إلى مرحلة اللاتخطيط (المُثمِر) يتطلب عدداً من المهارات والصفات ومن ذلك :
1- الثقافة الواسعة والتمكن العلمي فيما تتخصص فيه أو تدرب عليه .
2- الاعتياد على الارتجـال في المناسبات وغيرهـا .
3- امتلاك التفكير الإبداعي وإيجاد الحلول ومما يعين على ذلك الألعاب التدريبية ، وقد وضعتُ في هذا دورةً تدريبية إلكترونيةً تجدهـا في موقعي ” الشاوي للتدريب ” .
4- امتلاك كمًّ من القصص والتجارب .
5- تكرار بعض الدورات لدرجةِ استظهارهـا وحفظ محاورهـا وما فيها .
6- كثرة القراءة والمشاهدة للأشياء المفيدة .
7- الإلمام بمهارة (تيسير ورش العمل) بأن تكون ميسِّراً أكثر من كونكِ مدرباً ، فالميسِّر هو من ييسر العملية التدريبية وذلك عبر طرح مجموعة من الأسئلة واستثارة التفكير فيها وجمع النتائج وإدارة دفة الحوار ، فالوقت الأكبر سيكون للمشاركين وليس للميسِّر ، وهذه من الأدوات المعينة على تخطي تجربـة التدريب اللامخطط له ، فتعلَّمها واقرأ عنها .
8- مهارة الخريطة الذهنية ، مما تعينك أثناء الدورة اللامخطط لها أن تعيد ترتيب أوراقك ومحاورك .
9- دعاء الله أن يسترك : )
10- فن التصريف وابتكار المخارج .
وأما هل التدريب اللامخطط له إيجابيٌّ أم لا ؟
فأقول للمدرب المبتدئ والمبدع والخبير وغيرهم ، أن التخطيطَ يقويك بلا شك وهو أمرٌ مهم لك في حياتك وتدريبك ، لكن دع مساحةً للإبداع ، واعلم أنك في يومٍ من الأيام ستدخل دائرةَ التدريب اللامخطط له فجأةً لظرفٍ من الظروف ، وحينها لكَ مني الدعوات بأن يوفقك المولى ، ودمتم بخير .
لحظة من فضلكم ، هل قرأتم قبل عدة أسطر لفظة ( الخبير ) ؟! دعوني أبتسم قليلاً 🙂
حسناً ، كثيرٌ من الأشياء لا تعجبني ولم أقتنع بها في كتب التدريب ومن ذلك تقسيمهم لأنواع المدربين ( الصغير ، المراهق ، الناضج ، الخبير ) وقد ذكروا بأن الخبير هو من بلغ في التدريب عشر سنين فأكثر !
فهل كل من بلغ من عمر التدريب عشر سنين سُمِّي خبيراً !! إن (بعض) العلوم الحديثة والتقنيات تم اكتشافها مؤخراً وبعد هذه المدة ( العشر سنين ) ستصبح نسياً منسياً ومدرباً قديماً وليس خبيراً ، بينما الخبير فيها حقاً قد يمتلك هذه الخبرة بشهرٍ أو شهرين وقد يأتي لمدربٍ قد بلغ في التدريب ثلاثين سنة فتتقزم خبرة الثلاثين أمام خبرة الشهرين فعن أي خبيرٍ تتحدثون !
آهٍ لا أريد الحديث كثيراً ، لعلي أرجئ النقاش حول أنواع المدربين والمدرب الخبير بالذات في مقالٍ لاحق إن شاء الله ، دمتم بخير وتخطيط .